يحكى أنّ ملكًا رأى في منامه كأنّ أسنانه قد سقطت كلها، ففزع من الحلم وأمر باستدعاء معبّري الرؤى..
وقف الأول أمامه قائلًا: «أيها الملك، تفسير رؤياك أن جميع أقاربك يموتون قبلك»، فتضايق منه وأوعز بقتله.. دخل الثاني وأدلى بما فهمه من الرؤيا، فكان مصيره كمصير الأول.. ثم أُحضر المفسّر الثالث، فبادر الملك بابتسامة عريضة مبشّرًا إيّاه بأنّه سيكون أطول أقربائه عمرًا إن شاء الله.. فرح الملك بالأداء والتأويل، وأحسن إلى المفسّر وأمر له بعطاء جزيل.
إنه موقف يتخطى حدود الزمان والمكان، لأنّ بيت القصيد فيه هو فنّ الكلام، فليس المهم أن نتكلّم بما نعلم، حتى وإن كنّا على يقين من صوابه وصحته، لأن الأهم أن نعرف كيف نقوله، واضعين نصب أعيننا تحقيق ثلاثة أمور من خلال كلماتنا: كسب القلوب، وتوجيه المشاعر، وتغيير أو تعديل الإدراك.
ولئن أبدع الله تعالى في خلق الإنسان بجعله قادرًا على الإفصاح والبيان، وتحريك اللسان بكلام يعبّر عن مكنون العقول ولواعج الصدور فإنّ وقع تلك الأصوات وعظيم تأثيرها وإمعان سحرها في إحياء النفوس أو تحطيمها معجزة ثانية تستحق الوقوف عندها وتدبّر آفاقها.
واعلموا شباب الغد أنّ لكلّ كلمة قالبًا تُسكب فيه قبل أن تُقدم على مائدة المستمعين، وهنا يحقّ لنا أن نسأل عن مدى انعكاس ذلك القالب على مضمون الكلام وتفاعل المتلقي.
إنّه الأسلوب، نعم.. ذلك الإناء الذي يضفي على الكلام هيئة تزيد القابلية، وتشجع على هضم محتواه واستيعاب مبتغاه وإنفاذ مقتضاه.
فلو أنّ أحدًا أهدى إلى جليسه أغلى نوع من العطور مسكوبًا في كيس من النايلون، لتلقّاه باستهتار وازدراء، مستخفًّا بالمضمون- وإن كان قيّمًا وثمينًا- فقد غطى الشكل على العطر وقلّل من شأنه وخفّف من تأثيره!
إننا مطالبون، ونحن نتعامل مع أنفسنا وأهلينا وأصدقائنا ومسؤولينا وكل من حولنا، أن نختار الكلمة الطيبة المفيدة، وننتقي لها الإناء المناسب الذي يحفظ لها وظيفتها، وأن نتقن فنّ إيصال شريان الحياة إلى الكلمات، ونتعلّم كيف نغمسها في وعاء الودّ والإحسان، وإن اضطررنا إلى بعض التنازلات- في حدود المسموح شرعًا وأخلاقًا- إذ كسب القلوب أولى عندنا من كسب المواقف، والطريقة هي الفيصل...هنادي الشيخ نجيب ..
دمتم في حفظ الله ورعايته ...